في أعماق إحدى القرى المنعزلة، حيث تغمر الطبيعة المكان بسكونها الأبدي، عاش رجل يُدعى “عادل” وحيدًا. كانت تلك القرية محاطة بغابات كثيفة وبحيرة صافية تعكس زرقة السماء. لم يكن هناك سوى عدد قليل من الأكواخ، معظمها مهجور، وطرقات موحلة بالكاد تعرف وقع أقدام البشر.
لم يكن عادل دائمًا وحده. قبل سنوات طويلة، كانت القرية تعج بالحياة، وكان عادل يعيش مع عائلته الكبيرة. ولكن بعد أن ضرب وباء غامض القرية، نزح أهلها أو قضى عليهم المرض، وبقي عادل وحيدًا في المنزل الحجري القديم.
اللقاء مع الغريب
ذات مساء، بينما كان عادل يجلس أمام مدفأته، يسمع صوت طرق على الباب. لم يكن يتوقع زيارة؛ فمنذ سنوات لم يزر القرية أحد. قام بفتح الباب بحذر، ليجد رجلاً غريبًا يقف هناك، يرتدي معطفًا أسود وقد غطى الغبار حذاءه.
الغريب: “مساء الخير، هل يمكنني أن أجد مأوى هنا؟ لقد ضللت طريقي في الغابة.”
عادل (بصوت متردد): “من النادر أن يتوه أحد هنا. ما الذي جاء بك إلى هذه المنطقة؟”
الغريب: “كنت أبحث عن طريق مختصر للمدينة، لكن يبدو أنني ابتعدت كثيرًا.”
تردد عادل للحظة، ثم أشار إلى الداخل: “تفضل. يمكننا الحديث بجانب النار.”
دخل الغريب وأخذ مقعدًا قرب المدفأة، بينما بدأ عادل يُعد بعض الشاي.
حوار بين الماضي والحاضر
عادل: “هذه القرية لم تعد كما كانت. لماذا فكرت في المرور من هنا؟”
الغريب: “سمعت عنها من قبل. يقولون إنها كانت جميلة، مليئة بالحياة.”
عادل (تنهد): “كانت كذلك. لكن الأقدار لم تكن رحيمة بها. أنا آخر من بقي.”
الغريب: “وكيف يمكنك أن تعيش وحدك هنا؟ ألا تخاف؟”
عادل: “الخوف؟ تعلمت أن أتعايش معه. الوحدة تصبح صديقًا مع مرور الوقت.”
الغريب: “لكن ألا تفكر في المغادرة؟ المدينة أقرب مما تتصور.”
عادل: “المدينة؟ لم أعتد على ضوضائها. هذا المكان يحمل ذكريات عائلتي وكل ما أحببته. لا أستطيع تركه.”
حادثة غامضة
بينما كانا يتحدثان، سمعا صوتًا غريبًا خارج المنزل، كأن شيئًا يتحرك بين الأشجار. وقف عادل بحذر، وأخذ مصباحًا قديمًا.
عادل: “ابق هنا. سأتحقق من الأمر.”
الغريب: “لا، سأرافقك.”
خرج الاثنان إلى الظلام، حيث كانت الرياح تحمل أصواتًا مبهمة. أضاء عادل المصباح، ليجد آثار أقدام غريبة في الطين، لكنها لم تكن تشبه آثار البشر أو الحيوانات التي يعرفها.
الغريب: “ما هذا؟ هل لديك حيوانات في الغابة؟”
عادل (بقلق): “لا. هذه الآثار… لم أر مثلها من قبل.”
بدأت الرياح تشتد، وكأن شيئًا ما يحاول دفعهما للعودة إلى الداخل. قرر الاثنان العودة إلى المنزل وإغلاق الباب بإحكام.
كشف الأسرار
في الليل، وبينما كان عادل والغريب يجلسان بصمت، بدأ الغريب يتحدث.
الغريب: “أتعلم، لم أضل طريقي بالصدفة.”
عادل (يتفاجأ): “ماذا تعني؟”
الغريب: “سمعت قصصًا عن هذه القرية. يقولون إنها ليست مجرد مكان مهجور. هناك شيء غريب يحدث هنا.”
عادل: “قصص؟ ماذا تعرف؟”
الغريب: “هناك من يعتقد أن أرواح من رحلوا ما زالت تجوب المكان. وأنك أنت… آخر من بقي لحراسة أسرارها.”
عادل (بغضب): “هذه مجرد خرافات! عشت هنا لعقود ولم أر شيئًا من هذا القبيل.”
الغريب: “إذن كيف تفسر تلك الآثار؟ وكيف تفسر السكون الغريب الذي يحيط بالمكان؟”
عادل لم يُجب. كانت تلك الأسئلة تُثير شيئًا في داخله حاول أن يتجاهله لسنوات.
مواجهة الحقيقة
مع بزوغ الفجر، قرر عادل أن يأخذ الغريب إلى أطراف القرية ليبدأ طريقه نحو المدينة. وبينما كانا يسيران، توقف فجأة وأشار إلى شجرة قديمة.
عادل: “هذه الشجرة شهدت رحيل آخر سكان القرية. هنا دفنا من قضى عليهم المرض.”
الغريب: “وهل تسمع أصواتهم؟ هل تراهم في أحلامك؟”
عادل (بصوت منخفض): “أحيانًا. لكنني لا أعرف إن كانت حقيقة أم مجرد أوهام الوحدة.”
وقف الغريب لبرهة، ثم قال: “ربما ليس عليك أن تبقى هنا إلى الأبد. ربما حان الوقت لتترك هذه الذكريات خلفك.”
لكن عادل لم يُجب. كان يعلم أن المغادرة تعني ترك جزء من روحه هنا، في القرية التي شهدت كل شيء.
الرحيل
عندما وصلا إلى حدود القرية، ودّع عادل الغريب. وقبل أن يختفي الغريب بين الأشجار، التفت وقال:
الغريب: “في بعض الأحيان، علينا أن نترك الماضي ليعيش في ذكرياتنا فقط. فالحياة ليست في المكان، بل في الاستمرار.”
عاد عادل إلى كوخه، لكنه شعر بشيء مختلف هذه المرة. ربما كانت كلمات الغريب تحمل حقيقة حاول تجاهلها لسنوات. وبينما جلس أمام مدفأته، بدأ يُفكر: هل حان الوقت ليترك القرية وراءه؟ أم أن هذه الوحدة هي قدره الذي لا مفر منه؟
وبينما كان الليل يُسدل ستاره مرة أخرى، بقي عادل جالسًا، يُحدق في النار التي كانت تشتعل بهدوء، وكأنها تعكس صراعه الداخلي.
النهاية.